إن ما يشرع لطرح هذا السؤال هو الشعور بضياع الإنساني في تصور ساذج يختزل الإنسان في كينونة منشطرة إلى شطرين الأول من طبيعة إلهية (النفس) والثاني من طبيعة حيوانية (الجسم). كما أن الجدل حول وجود أو عدم وجوده خط فاصل بين الإنساني واللاإنساني وجه آخر من الإشكال من شأنه أن يعمق هذه الحيرة المقضة. فمنذ النداء السقراطي "اعرف نفسك بنفسك" احتكم القول الفلسفي في الإنسان إلى أنطلوجيا مثالية تفضل المعقول على المحسوس والإلهي على الحيواني والميتافيزيقي على الفيزيقي فاستحال الإنسان إلى ماهية عاقلة لدى أفلاطون قديما وجوهر مفكر عند ديكارت حديثا. بحيث نكون أمام تصور للإنسان يختزل معنى الإنسانية في مجرد القطع مع الحيواني (الجسم) ويلغي كل فعالية لما هو إنساني (اللغة، المعتقدات، العادات، القوانين، القيم الأخلاقية والجمالية،..) في نحت كينونة الإنسان، بل ويعلن بكل غرور وكبرياء أنه"ينبغي على الإنسان أن يتصرف كما لو كان سيدا ومالكا للطبيعة" كما صرح ديكارت.
لم يدم هذا الحلم الديكارتي طويلا، فقد كانت سرعة التحولات العلمية التي فرضتها نجاحات العلم الفيزيائي دافع لمراجعة الصورة التقليدية للطبيعة والإنسان واستبدال النظرة الأنثروبومورفية (أنسنة الطبيعة) بنظرة زومورفية (تطبيع الإنسان)، وقد كانت أبحاث البيولوجي الإنقليزي شارل داروين أرضية لرجة فكرية تستشكل نظرية النشوء والارتقاء ومبدأ الانتخاب الطبيعي وقانون البقاء للأصلح. لقد فرضت هذه الأبحاث البيولوجية ضرورة الانزياح عن الوحدة إلى الكثرة في تمثل الإنسان، فالإنسان لا يولد إنسانا بل يصير كذلك بعد أن يولد بشرا يتميز بأطول طفولة على الإطلاق بين جميع الكائنات الحية وهو ما يجعل منه أرضية استثمار اجتماعي واقتصادي وسياسي وأخلاقي... يرسم له ملامح إنسانيته ويحدد له هويته، فلم يعد الإنسان وحدة ماهوية أو جوهرية بل بنية أو نسيجا من العلاقات المتقاطعة والمتقابلة والمتناقضة... وفي هذه البنية يضمحل الإنسان فيتراءى لنا الواقع الإنساني بعد ذلك وجودا متناغما وجميلا في السلم وطلب الفضيلة أو وجودا متناقضا وقبيحا في الحرب و ممارسة الرذيلة. ولكن علينا ألاّ نرى في نقد المفهوم الحديث للإنسان مشكلا خاصا بالفلاسفة دون غيرهم. إنّ الإنساني قد انفجر في أفق المحدثين بشكل مذهل، بحيث أنّ الدعوة إلى مراجعة المماهاة الصورية بين "النزعة الإنسانية (humanisme)و"النزعة الكونية (universalisme)، التي أعطاها كانط صيغتها النموذجية من خلال مفهوم "الإنسان /مواطن العالم أو المواطن الكسموبوليطيقي"،- قد سمع صداها في كل النقاشات الأساسية حول الإنسان، من الرومانسيين إلى نيتشه وهيدغر وفلاسفة الاختلاف والتأويلية، ومن فلسفة البيولوجيا منذ داروين والتحليل النفسي الفرويدي، إلى علم الوراثة والتيارات ما بعد الحديثة، مثل الحركة النسوية ولكن أيضا فنون وآداب الأقليات ونزعات المثاقفة وحوار الحضارات والأديان.. هذه الأمثلة تكفينا لاقتراح هذا التنبيه: إنّ الكثرة قد دخلت إلى ماهية الإنساني من اللحظة التي أخذ فيها المحدثون يمرّون بصمت وبطء من نموذج الوعي إلى نموذج اللغة. وكما كان "العقل" هو باب الوحدة في ماهية الإنسان فإنّ "اللغة" هي هذه المرة باب الكثرة لامتلاك مكانتها في فهم معاني الظاهرة الإنسانية.
لذلك يقتضي الوعي بما هو إنساني في الإنسان تخطي عتبة الإنية والانفتاح على الغيرية وتقصي طبيعة العلاقة بينهما والنظر في أوجه التواصل الممكن في ظل تعدد وتنوع الأنظمة الرمزية حتى نتبين وجه المفارقة بين انشداد الفرد إلى خصوصيته من جهة وانفتاحه على تنوع أنماط الوجود الإنساني الممكنة ونشدان الكوني من جهة أخرى.